يونيو 06, 2015
#اعرف_طفلك | الطاهرة عمارى
لابد إننا مازلنا نذكر طفولتنا جيداً .. الأسرة التى نشأنا فيها .. المعاملة الوالدية التى تلقيناها .. ذكريات المهد والنشأة .. كل هذا .. كيف كان العماد الذى قامت عليه وتحددت ملامح شخصيتنا واتجاهاتها .. كيف تشكلت فيها طباعنا .. صفاتنا .. سلوكنا الذى استمر معنا إلى اليوم .
هكذا أطفالنا .. فهم كما قال الأمام ” على بن أبى طالب ” رضى الله عنه : " الطفل صفحة بيضاء فكلما نقشتوا فيها لون تلونت بذلك اللون "
فأنتقوا بعناية .. الألوان التى تنقشون بها عقول صغاركم . ولأنهم رجال الغد وامهات المستقبل .. كان لزاماً علينا ان نلتفت لكل معاملتنا معهم .. خبراتنا .. وحتى عواطفنا وانفعالاتنا التى نصدرها إليهم ..
وقد أكدت العديد من الدراسات والبحوث العلمية على أن الاضطرابات السلوكية للراشدين إنما تعود إلى خبرات نفسية مروا بها خلال مرحلة الطفولة . فقد تعترض نموهم فى مراحل النشأة الأولى بعض المشكلات النفسية والتى قد تستمر معهم فى مراحل نموهم اللاحقة .. حتى تصبح جزءاً لا يتجزأ من مكونات شخصيتهم وملامح سلوكهم وخبراتهم فى الكبر
وفى هذه السلسلة من المقالات نتعرض معاً لأهم المشكلات السلوكية عند الأطفال والنشء التى تظهر فى مراحل الطفولة المبكرة .. والتى قد تتطور لمشاكل مزمنة وسلوكيات ثابتة فى ملامح شخصيتهم إذا لم تلق العلاج المناسب فى مرحلة مبكرة . والعلاج نفسه يتوقف نجاحه على التشخيص الدقيق للعوامل الأسرية والنفسية المسببة لهذه المشكلات . فالمشكلة لا تكمن فى السلوك الخاطئ نفسه بقدر ماتكمن فى العوامل التى أدت إليه .. والأجدى والأولى علاج المسبب الذى أدى إلى المشكلة عن علاج المشكلة ذاتها ..
حديثنا فى هذا السياق عن مشكلة من أهم مشكلات السلوك الاجتماعى لدى الأطفال ومن أسهل المشكلات التى يمكن للكبار ملاحظتها بسهولة .. ماذا إذا كان طفلك يتجنب الألعاب والأعمال الجماعية ؟ .. ويشعر بالحرج عند محادثة الآخرين ؟ .. سريع الأرتباك .. يلازمه الخوف دائماً .. يعانى من الشعور بالنقص حينما ينظر إليه ، ودائما منشغلاً بنظرات الآخرين إليه ورأيهم فيه .. أو يتردد فى مواجهة المواقف الاجتماعية الطبيعية .. إذا كان طفلك يعانى من بعض هذه الأعراض أو كلها .. فهو يعانى من مشكلة من أهم وأخطر مشكلات سوء التكيف الاجتماعى والاضطرابات السلوكية وهى مشكلة الخجل .
والخجل يظهر بشكل طبيعى فى العامين الأول والثانى من حياة الطفل ، وفيما بعد ذلك ينتشر بصورة كبيرة فى المراحل العمرية التالية إذ نجد أن 40 % من المراهقين والراشدين يصفون أنفسهم بأنهم خجولين وبأنهم غير قادرين على تحقيق التواصل المناسب مع الآخرين . وكما ذكرنا سلفاً .. فبالبحث فى جذور المشكلة نجدها – بلا شك - تعود إلى مرحلة الطفولة المبكرة . لذا فالخجل مشكلة حقيقية تستحق أن تحظى بالأهتمام والعلاج المناسب حتى لا تتحول – مع تقدم العمر - إلى مرض عضال يصعب علاجه .. بل قد يترتب عليه مشكلات آخرى مثل : تجنب التواصل والأرتباط والعلاقات الاجتماعية الطبيعية أو فقدان الثقة بالنفس . وقد تصل إلى الحسد والغيرة من الآخرين الذين يتمتعون بسلوك طبيعى .
وتكمن خطورة الخجل - كمشكلة سلوكية - إذا ما وجد فى مراحل الطفولة المبكرة أنه الأكثر عرضة للتطور والنماء عن غيره من الاضطرابات السلوكية الآخرى . فبالمقارنة بالعدوانية مثلا .. فالطفل الخجول يتعمد الانزواء والسلبية بدلا من العدوان والنشاط الزائد . ووجه الخطر فى ذلك أن الطفل الخجول المنطوى قد ينال فى البيئة التى يحيا فيها القبول بل والتشجيع أحياناً حين يعتبر المجتمع هذا السلوك – بشكل خاطئ – يمثل مظهراً من مظاهر الطاعة والأدب .. على عكس السلوك العدوانى الذى يعد نوعاً من الثورة والتمرد على المألوف . ومن هذا المنطلق تنبع خطورة الخجل فى عدم التنبه إليه بل وأعتباره معظم الوقت من الصفات المحمودة المرجوة .
ومن خلال ماسبق فيمكننا ان نخرج بمفهوم وافى عن الخجل – كمشكلة من اضطرابات السلوك الاجتماعى - فى كونه يعنى الفشل فى التفاعل الأجتماعى مع الآخرين . وعدم الارتياح والتوتر والارتباك وقلة الاستجابات التفاعلية فى المواقف الاجتماعية المختلفة .
وقد يلتبس علينا الأمر فى مفهوم الخجل مقابل الحياء . لكن الحياء يختلف عن الخجل فى كونه يعبر عن احترام وتقدير للطرف الآخر فى المواقف الاجتماعية . وقد نعده نوعاً من انواع الالتزام بالاداب العامة والاعراف والاخلاقيات . اما الخجل فهو معبر عن مشكلة ونقص فى امكانيات ومهارات التواصل الاجتماعى . كما تلعب الأرادة دوراً هاماً فى اتصاف الفرد بالخجل أو الحياء . فكثيرا من الأفكار العلاجية تؤكد على دور الأرادة فى التخلص من الخجل . بينما لا نجد ابداً شخصاُ يحاول – ارادياً – ان يتخلص من الحياء لكونه صفة محمودة تعبر عن التزام الفرد بالقيم الاخلاقية والعادات القويمة .
واما اذا تساءلنا عن اسباب الخجل لدى الطفل .. فنجد انها متنوعة وان كان معظمها يصب فى محيط الاسرة وطرق تعاملها مع الطفل . وعلى سبيل المثال : قسوة الأب .. فالأب الذى يسلك سلوكاً قاسياً وعدوانياً فى البيت مع الزوجة أو الأطفال يتسبب فى حدوث مخاوف غامضة للطفل ويشعره بعدم الأمان . مما ينعكس على سلوكه بالأنزواء والتوتر .
كذلك مخاوف الأم وقلقها الزائد على الطفل فتجعله يخشى ان يخوض التجارب الجديدة ، والحماية الزائدة تحول دون انطلاق الطفل .. لان احساس الام بان طفلها سيتعرض للاذى ينقل هذا الاحساس للطفل نفسه . فيشعر بان المكان الوحيد الامن الذى يشعر فيه بالطمأنينة هو إلى جوار امه . فيشعر بالخوف من كل شئ . بداية من عبور الطريق وحده مرورا بالجرى واللعب والسباحة .. إلخ . فهو – كأمه – يتوقع الأذى فى كل لحظة .. فيظل خجولاً منطوياً بعيداً عن محاولة فعل اى شئ بسبب مخاوفه المرضية .
ولا تتوقف الأمر عند هذا الحد بل احيانا يصل خوف الأم على طفلها إلى درجة أنها قد تمنعه من الأختلاط واللعب مع الأطفال الآخرين .. قد يكون خوفاً من سلوكياتهم الخاطئة .. أو ألفاظهم غير اللائقة – كما قد تعتقد – وتكمن خطورة الأمر فى أن الطفل يصبح لهذا السبب منطوياً يفضل العزلة عن الأختلاط بقرنائه .. وقد يؤدى به الأمر للشعور بالنقص وعدم الرضا عن ذاته وفقدان الثقة بنفسه الذى قد يتطور إلى القلق والأكتئاب .
أيضا من الأسباب الهامة لظهور مشكلة الخجل لدى الطفل هو تعرض الطفل لسماع التهديد الذى يوجه إليه من الوالدين بإسراف كلما أخطأ . وقد يظن الوالدين – خطأً – أن التهديد قد يأتى بنتائجه المرجوة من بعث الخوف فى نفس الطفل من فعل هذا السلوك الخاطئ أو تكراره .. لكنه فى ذات الوقت قد يؤتى بنتائج عكسية تماماً .. فقد يعتقد الطفل فى صدق هذا التهديد مما يؤدى به إلى الفزع الشديد والأنزعاج والتوتر فيلجأ إلى الأنطواء والخجل لعدم شعوره بالأمان .
وبعد أن تعرفنا على أسباب الخجل .. فإن السؤال الذى يطرح نفسه الآن هو : كيف نتغلب على هذه المشكلة لدى الطفل ؟ وما هى الأساليب والسلوكيات الواجب اتباعها للتعامل مع الطفل الخجول والخروج به من القوقعة التى انزوى فيها بعيداً عن المجتمع المحيط به .
وقبل كل شئ لابد – فى كل الأحوال – من تقديم الحب والتقبل للطفل الخجول واقامة علاقات ودية معه . فالخجل مجرد بعد واحد من ابعاد الطفل الخجول فيا حبذا لو ركزنا على الجوانب الأيجابيه في شخصيته . وقدمنا له الأهتمام والدعم وبنينا علاقة ايجابية معه . إن هذا قد يبعث فى نفسه الأطمئنان والثقة فى الذات ويساعده على الميل للأندماج مع المجتمع وعلاقاته الطبيعية
ويأتى أيضاً على رأس هذه الأساليب التشجيع المستمر للطفل الخجول على المشاركة فى الأنشطة الاجتماعية والخبرات الحياتية الجديدة وإقامة علاقات اجتماعية جديدة ( كالصداقات مثلا ) أو تكليفة ببعض المهام التى تساعد على احتكاكه بالمجتمع المحيط – ولو بشكل طفيف – وكذلك توجيه بعض العبارات التشجيعية والتحفيزية كلما تطلب الأمر ذلك . فهذا يدعم ثقته بذاته ويكسر لديه حاجز الخوف من مواجهة الآخرين والتعامل معهم .
ومن أهم أساليب التعامل مع الطفل الخجول هو تدعيم وتعزيز تقديره لذاته وتشجيعه عل الكلام والتعبير عن رأيه . فالطفل الخجول لديه – بالفعل – صورة سلبية عن ذاته وعن نظرة الآخرين إليه – وهو ما يكترث به أكثر من اللازم – وربما يشعر انه غير مقبول من المجتمع من حوله , وبالتالى فإن السماح له بالاستعداد للمواقف الاجتماعية و تشجيع أى مبادرة للتفاعل مع الآخرين الجديدة يشعره بالأمان ويولد له الأغراء بالمشاركة فى التفاعلات الأجتماعية سيؤدى إلى نتائج مذهلة فى تغلبه على الخجل .
وهكذا فإن ما من مشكلة بدون حل .. وقد يكون الوقت قد حان لنتغلب معاً على المشكلات التكيف الأجتماعى لدى أطفالنا . ومازلنا مع أطفالنا فلذات أكبادنا .. وعنواننا القادم عن العدوانية .